وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أدلة ثبوت الإحاطة:
فقال: "الإحاطة ثابتة عقلاً ونقلاً وفطرةً" وهذه قاعدة عظيمة، وسيأتي الحديث الذي رواه مسلم في قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[الحديد:3] وأنه صلى الله عليه وسلم فسر ذلك فقال: {اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء} وهذا مما يدل على معنى الإحاطة؛ لأن كل صفات الله تعالى يصدق بعضها بعضاً، والأدلة يصدق بعضها بعضاً.
وكمثال على ذلك ما تقدم في الرسالة العرشية لـشيخ الإسلام وذكره. ابن القيم وهو ما رواه الترمذي من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فو الذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله} قال ابن القيم -وهذا بعض كلامه-: وقد اختلف الناس في هذا الحديث في سنده ومعناه فطائفة قبلته؛ لأن إسناده ثابت إلى الحسن "لكن بقيت علة سماع الحسن من أبي هريرة، قال الترمذي: "... وقد صح عن الحسن في غير هذا الحديث أنه قال: حدثنا أبو هريرة، ولا ريب أنه عاصره"، وإثبات الحديث قول بعض أهل السنة .
والطائفة الأخرى ردوا الحديث وقالوا: إن الحديث منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، وذكروا له علة أخرى، وهي: أن عبد الرزاق في تفسيره رواه عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ففيه أيضاً علة الإرسال، فردوا هذا الحديث ولكنهم لم ينفوا الإحاطة؛ لأن هذا الحديث هو غاية ما يمكن أن يتمسك به الذين ينفون إحاطة الله عز وجل، بحجة أن هذا الحديث يلزم منه لوازم ومعاني باطلة، بينما نحن ننظر إلى الحديث من ناحية ثبوته، فإن اتفق السلف على رده رددناه، وإن اتفقوا على ثبوته أثبتناه، أما ما داموا اختلفوا، فما هو قول من أثبته؟ وما هو المعنى للحديث لديهم حتى لا يقول أهل البدع بلوازم باطلة؟!
قال ابن القيم : "والذين قبلوا الحديث اختلفوا في معناه، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن المعنى: يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه، أي: انتهى علمه وقدرته وسلطانه إلى تحت التحت، فلا يعزب عنه شيء" وهذا المعنى رده الترمذي، ويرده كل عاقل؛ لأن علم الله في كل مكان، والدنيا ملك الله وسلطانه، فهذا التفسير خطأ، ومن يثبت الحديث يجب أن يأتي بمعنى صحيح له.
يقول ابن القيم : " وقالت طائفة أخرى: بل هذا معنى اسمه (المحيط) واسمه (الباطن ). فإنه سبحانه محيط بالعالم كله، وإن العالم العلوي والسفلي في قبضته كما قال تعالى: (( وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ))[البروج:20] فإذا كان محيطاً بالعالم فهو فوقه بالذات، عالٍ عليه من كل وجه وبكل معنى، فالإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة فإذا كانت السماوات السبع والأرضون السبع في قبضته فلو وقعت حصاة أو دلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه". إذاً: الحديث لا إشكال فيه لو ثبت لأن السموات والأرض في قبضته سبحانه وتعالى.
يقول ابن القيم : "والحديث لم يقل فيه: إنه يهبط على جميع ذاته"، فلا يمكن أن نثبت له السفل، تعالى الله عن ذلك.
وقد روي عن الجهم وابن أبي دؤاد وبشر أنه كان يقول: سبحان ربي الأسفل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا فهم عجيب! هل في الحديث أنه يهبط على جميع ذاته، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
يقول: "فهذا لا يقوله ولا يفهمه عاقل، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض ألبتة" لا الحلولية ولا الاتحادية، ولا الفرعونية، ولا القائلون: بأنه في كل مكان بذاته، وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم. فقوله: {لو دليتم بحبل لهبط على الله} إذا هبط في قبضته المحيطة بالعالم فقد هبط عليه، والعالم في قبضته، وهو فوق عرشه، ولو أن أحدنا أمسك بيده أو برجله كرة قبضتها يده من جميع جوانبها، ثم وقعت حصاة من أعلى الكرة إلى أسفلها لوقعت في يده، وهبطت عليه، ولم يلزم من ذلك أن تكون الكرة والحصاة فوقه وهو تحتها، ولله المثل الأعلى" فكيف بالذي لا تدركه الأبصار سبحانه وتعالى، وليس كمثله شيء؟!
يقول: "وإنما يؤتى الرجل من سوء فهمه، أو من سوء قصده، أو من كليهما، فإذا هما اجتمعا كمل نصيبه من الضلال.
وأما تأويل الترمذي وغيره له بالعلم، فقال شيخنا "-يعني ابن تيمية رحمه الله-": هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته فإنما يدل على الإحاطة، والإحاطة ثابتة عقلاً ونقلاً وفطرة كما تقدم" هذا الكلام بنصه في الرسالة العرشية، وقد تقدم.
يقول: "وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره أو تحت رجله}" إلى أن قال رحمه الله: "فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز التوجه إلى الله تعالى إلا من جهة العلو، وأن ذلك لا ينافي إحاطته بالعالم، وكونه في قبضته، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء، كما أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر، وأن إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته لهم ولا علوه على مخلوقاته، بل هو فوق خلقه محيط بهم، مباين لهم." فالإحاطة إذاً لا تنافي المباينة، بل الإحاطة تتضمن العلو والسعة والعظمة.
"وإنما تنشأ الشبهة الفاسدة من اعتقادين فاسدين:
أحدهما: أن يظن أنه إذا كان العرش كرياً والله فوقه، لزم أن يكون الله كرياً" أي كروياً أو كالفلك كما يقوله أولئك المبطلون.
"الاعتقاد الثاني: أنه إذا كان كرياً صح التوجه إليه من جميع الجهات وهذان الاعتقادان خطأ وضلال". وقد سبق إيضاح هذا، والرد عليه، وبيان بطلانه، في الرسالة العرشية .
والمقصود هنا هو أن الإحاطة حقيقة نثبتها لله سبحانه عز وجل أعظم وأكبر من كل المخلوقات، كما تعني هذه الصفة إحاطة العلم ولا إشكال في هذا المعنى الأخير، بل من أولوا الأحاديث إنما لجئوا إليها وهو أنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء علماً، يعلم كل شيء وأن دق وخفي على غيره عز وجل.